الخميس، 5 سبتمبر 2013

رسالة إلى مُخَلٍصِه

        كم أشفق على هذا الوحيد .. ربما أظلمت الوحشة داخله حتى تشربتها خلاياه بالكامل و ظهرت على خارجه ،
يتحرك سريعا من مكان لآخر صارخا بأعلى صوته .
هو يعلم جيدا أن لا أحد يرغب فى سماعه ، يمقتون صوته ، لكنه مستمر فى الغناء بعناد .. لا يدرى أيرغب فى ذلك فقط لإثبات ثقته بنفسه أم هو يائس و وحيد للدرجة التى يبرز فيها أبشع صفاته عل أحدا من السامعين يقترب منه بدافع الشفقة أو حتى لإسكاته ..

و لمزيد من المعاناة صار رمزا لكل ما يخشاه البشر ، ربطوا مقتهم له بكل ما يمقتونه فى حياتهم فصارت رؤيته نذيرا بحدوث كل ما هو سئ ، كيف يجرؤون على التملص من حماقاتهم و إلصاق خيباتهم به !
و لم يفكر أحد فى أن يسمع له ، أن ينحى مشاعره جانبه و ينصت إلى ذلك المنفى بهدوء ، ربما لو فعل أحدهم ذلك لأزاح الهم عنه و أزال و حشته .. لربما خف سواد لونه ..ربما لو بذل أحدهم بعض الجهد  كنا قد رأيناه الآن يختال ببياضه .

أخشى أنه حتى أنا أخاف الاستماع إليه .. لذلك أكتب .. عسى أن يقرر أحد استجماع شجاعته و يستمع إلي ذلك الحزين رافضا كل التهديدات ممن حوله بسوء العاقبة راغبا فى مساعدته بصدق .
عزيزى الغراب اعتذر بشدة عن عدم مقدرتى على سماعك .. كل ما أجيد فعله هو الاستجداء .. فانتظر مُخَلٍصَك .

الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

سفر

وقفت بسيارتها أمام منزلها القديم تتساءل عن سر احتفاظه بهيئته كما كانت ..عقد كامل مر منذ آخر مرة كانت بداخله .. لاتزال تحس بدفئه الغامر ، الحياة ملتصقة به بشكل ما .. لا تتركه ..
فتحت الباب .. لا زال كل شئ على حاله .. ربما تغيرت هى أكثر مما تغيرت الأشياء حولها ..صعدت السلم متجهة إلى الغرفة التى كانت لها يوما ما .. 

دخلتها ..
لو جاز للزمن أن يقف مرة فى هذا العالم فقد فعلها .. لا تصدق كيف يمكن أن يحتفظ مكان ما بشكله ، رائحته ، طيف الحيوات التى سكنته .. كأن الغرفة تزدحم بالبصمات .. كل بصمة تعود ليوم ما .. لشعور ما .. لذكرى معينة ..تتزاحم البصمات .. تطمع كل منها فى اقتحام ذاكرة صاحبتها و الاستحواذ على قلبها ..
تلك الحجرة هى آلتها الزمنية .. أعادتها فى لحظة أعواما كاملة ..

ها هى طفلة ..فتاة ..طالبة فى مدرستها الإبتدائية ..الثانوية .. طالبة جامعية ..
أعوامها تمر أمامها كحلم .. أعاشت حقا كل هذه السنين ! ..
توقف السيل الزمنى عند يوم ما ..

ها هى تدخل الغرفة بحماس ..فى عينيها ألق يُشع ..لا يفهمه إلا من أحب ..صخب أسرارها يملأ عينيها .. يموج فى صدرها بجنون .. لا بد من البوح .. و لا مكان أفضل من قاع خزانتها ..
توقّف السيل مرة أخرى ..
الخزانة ! دفترى ! هل سأجده ؟ ..

هرعت سريعا إلى خزانتها تفتش بداخلها .. تنفست الصعداء .. ها هى .. وردية كما كانت .. تحمل حرفى البداية لإسمين .. الأول لها .. و الثانى تصادف أن يكون الحرف الأول من اسم أبيها .. و لكنها لم تكن تعنى أباها مطلقا حين كتبته ..  شخص آخر يبدأ اسمه بهذا الحرف ..


فتحتها .. تتذكر خطها المُنسّق المملوء بالدفء .. و الذى لم يعد كذلك .. أوقفتها صفحة ما .. تعرفها جيدا .. تحفظ حروفها .. كيف لا تكون محفورة فى ذاكرتها و قد أودعتها كل روحها و دفئها و أحلامها التى لم تتحقق .. يتلو قلبها الكلمات عن ظهر غيب قبل أن تقرأ ..

" لن أنسى نظرتى  إلى عينيك ..ليست  الأولى و لكنها الأكثر توغلا إلى أعماق روحك ..دقائق مرت ..كدت أصل إلى المنتهى  لولا أن أيقظتنى ضوضاء من حولى .. أهرب دائما من عيون الرجال .. لم إليك وحدك  ترنو عيناى ؟

كم أود أن تحدثنى .. و أستمع إليك تتحدث و تتحدث .. تبوح لى بكل ما فى داخلك ..استمع إلى كل ما يخطر لك قوله ..ذكرياتك ، أحلامك ، من تحبهم و من تكرههم ، أيام سعادتك و شقائك .. كل ما مررت به منذ خلقت .. و أحس بالاتساع .. و بضمى لأجزائك بداخلى ..
و أظل أستمع إليك تسكب من روحك فى روحى .. و نمتزج .. نصير كيانا واحدا ..

يا من اختاره قلبى و علق عليه آماله و أحلامه و أيام عمره التى مرت و التى لم تنقض بعد ..من تريد ؟ من تريد ؟ حتى أكون . "



أغلقت الدفتر ..يكفيها ما قرأته .. هى تعلم جيدا ما كتب بعد تلك السطور .. و لا تملك الجرأة و التّحمل لتقرأه مرة أخرى بعد ما كتب ..
تراجعت .. تنهّدت .. فتحت الدفتر مرة أخرى .. مسحت سريعا دمعة ناضلت بشدة لتحصل على حريتها فظفرت بها .. كتبت سطرا أخيرا فى دفترها .. أغلقته و أعادته إلى بئره العميق .. غادرت منزلها .. و لم تعد إليه ثانية ... أبدا ..

الجمعة، 20 يناير 2012

صعود



           دخلت مسرعة إلى غرفتها و ارتمت على سريرها و بكت بحرقة ..كان الجرح قد بلغ أقصاه و لم يعد بإستطاعتها تحمل المزيد ..بكت حتى بلغ الإنهاك مداه .. رفعت و جهها و سألت ربها الذى لا يكلف نفسا إلا وسعها أن يرحمها و ألا يحملها ما لا تطيق ..


          لم يكن من عادتها بعد البكاء أن تنام ، كانت أيامها تأبى أن تنتهى بسهولة على عكس بدايتها ..كانت تظل مسهدة حتى يبزغ الفجر ..و لكن الليلة -على غير العادة - أخذت جفونها تنغلق تدريجيا بغير إرادة منها ، وراحت فى سبات عميق ..


          استيقظت و وجدته بجانبها نائما ..يقولون أن الرجل يبدو كالطفل و هو نائم ، و لكنها لم تر هذا الطفل ..لم يكن إلا ذئبا حقيرا هيهات أن تبدو عليه شئ من البراءة 
اتجهت لمرآتها ..لكم تغير وجهها ..اصبحت أخرى بعد أن عاشت معه تحت سقف واحد ..عجوز هدها الألم و التعب ..و ضعت عطرها المفضل و كحلت عينيها ..كانت تحب الكحل كثيرا لكن منذ علمت بإعجابه بعينيها المكحلتين تركت التكحل تماما ..و لكن الليلة مختلفة تماما ..ما هذا الصفاء الذى يبدو على وجهها ؟ .. ما هذه الخفة الهائلة التى تشعر بها ؟ تشعر بأنها قادرة على الطيران ..و كأن أحمالا قد انزاحت عن كاهلها ..


         نظرت خلفها حيث يرقد ذلك الجسد المنهك بجواره ..و ابتسمت إبتسامة تشع بالطمأنينة و تكتسو بشئ من السعادة ..و صعدت ..إلى حيث كانت تتمنى الصعود دائما ..